دير مار أشعيا – مار أشعيا – المتن
(تأسّس سنة ١٧٠٠، عيد شفيعه ١٥ تشرين الأوّل)
في هذا المرتع المبارك، على تلّة عرمتا، شهدتِ الرهبانيّة الأنطونيّة تفتّحَ علاماتها الأولى على أنقاض دير قديم مهجور منذ قرون. فبين حجارة دير مار أشعيا، الراهب الحلبيّ، رسّخ الأنطونيون عام ألفٍ وسبعِ مئةٍ صخرتهم المسيحيّة، وجذّروا دعوتهم الرّهبانيّة بإلهامٍ مُنِير من المطران جبرائيل البلوزاني لتمتدّ البشارة المسيحيّة في جبل لبنان حتّى أعمقه، حتّى أروقةِ الإمارتين المعنيّة والشهابيّة.
هكذا، مدّ دير مار أشعيا جسر العلاقة بين رهبانيّة مارونيّة تشهد على ملكوت المسيح وحكّام الجبل، أمراءِ آل أبي اللمع وآل شهاب الموحِّدّين ما حدا بأفرادٍ من الأسرتَين الكبيرتَين النافذَتين اعتناقَ الإيمانِ الكاثوليكي في مناطقَ متنيّة بأثر من الرهبان الأوائل، أبناءِ المطران البلوزاني بالروح والدّعوة المستجابة.
تكوّر الجنينُ الرّوحي للأنطونيين في دير مار أشعيا بعنايةِ آباءٍ جدّدوا الحياة الرهبانية المنظّمة: سليمان الحجّة المشمشاني، وعطاالله كريكر الشبابي، وموسى زمّار البعبداتي.
إلا أنّ ما شيّدته الأيادي الرّهبانيّة الأنطونية وهي ترفع راحاتِها صوب السماء، وترسمُ شارة الصليب بإيمان متسامٍ دمّرته الأيادي الغارقة في الدمّ، تلك المسنونة على حدّ البغضاءِ والمصفِّقة لحروب تعاقبت على الدير وتركت بصماتِها الهدّامة من ١٨٤٠ – ١٨٦٠، إلى الحرب العالميّة الأولى، وقد كانتِ الأشرس، إذ تركت آثارها على الدير وأخذت بدربِ أصدائها صوتَ المعاول ومقالع الحجارة، فدمّر الجيش التركيّ المعالمَ الدينيّة للدير وأحرق مكتبته الشهيرة مستخدمًا الأوراق المحروقة ليدفأ من برد يضرب الاجساد المشرّدة في عراء الحرب العالميّة الأولى.
عاد دير مار أشعيا يشعّ نورا رهبانيًّا مع مرور السنين وتتالي الآباء المسؤولين عليه فوسّعوه وكبّروا غرفه حسب الحاجات المستجدّة، لتواكبَ تطوّرا طاول الأداء وحمل دومًا روحانية أنطونيّة.
ففي العام ألفٍ وتسعِ مئةٍ وأربعينَ (١٩٤٠) توسّع الدير ثم أضيفت الساحات. تغيّر المدخل في ستينيّات القرن الماضي، ثم في سبعينيّاته أُعِيد بناءُ الجزء الغربي، في عهد الأبّاتي بولس تنوري عام ١٩٩٢ كذلك أضيف عليه طبقة، وفي عهد الأباتي سمعان عطاالله، عام ٢٠٠٢، أُضيفت صالاتٌ ومطبخ مع بعض الخدمات. وفي العام ٢٠٠٥ وُسّعت أبنية الحارة لتربية المواشي، واستُصلحت الاراضي حولها، وأُنشئ معملٌ للأجبان، واستُحدث مكانٌ لتصريف المنتوجات الزراعيّة، ليُطاولَ الأنطونيون اكبر شريحة اجتماعيّة في محور دير مار أشعيا وبناء علاقات أخوية مع أبناء المنطقة بجانب تنقيب الأرض وتحويلها واحات خصبة مباركة على غرار موارنة جبل لبنان ليبقى لبنان قمّة مارونيّة تناجي من عليائها الله بأصوات رهبانيّة لها وقعُها الأقرب الى قلب الله.
حضور الرهبان في دير مار أشعيا الامّ والأساس لمنبت رهبنتهم في حقل الرب الشاسع دفعهم ليبذروا قمحهم في المجتمع المحيط بهم للطوائف كافة لا سيما ايام الحرب اللبنانيّة الأخيرة، فشرّعوا بوّابة الدير الكبرى للعائلات النازحة من المتن والشوف وعاليه وتحوّل الدير الى مدنٍ في مدينة كبيرة هي مدينة الله المُحبّة عكسها الأنطونيون في إكرامهم الناس وحمايتهم بالصلاة والإكساء والكلأ ولإقراء الضيف وخدمات إجتماعيّة شتّى مرّت عبرها الرسالة الروحيّة وجوهر الدين المسيحيّ ومبادئ الرهبنة الأنطونية.
وهذا ما بدا واضحا جليا في الصداقة بين الرهبان الأنطونيين وأهالي بلدة المزكّة، صداقة بدأت بالشراكة اليومية، ولم تنته الا بالشراكة الروحيّة نجم عنها ثقة متبادلة فباع الدير من الشركاء عقاراتٍ بأسعار رمزية لتعزيز البلدة، ليصرّ الأهالي والأعيان في الموازاة على ان يتسلّم راهبان من الدير إدارة شؤون بلدة مار اشعيا-المزكّة، للمخترة مع مجلس اختياريّ، ولرئاسة البلدية مع مجلس بلديّ. فكان الحضور الأنطوني البارز إجتماعيا وإنمائيًّا ضمن بلدية مار أشعيا ومخترتها المعتبرة نموذجية. كما شكّلت رعيتهم الكبيرة في حماية الدير نقطة انطلاق لخطوات تربوية رعوية توسّع نطاقها.
أمّا مدرسة دير مار أشعيا الإكليركية فشهدت منذ تأسيسها عام ألفٍ وتسعِ مئةٍ وتسعةٍ وثمانين ١٨٨٩ حضورا طالبيا بارزا خرّجت إثره دفعات من الرهبان المتتلمذين على أيدي معلّمين مشهورين في مناخ تربوي محترف ووسط مكتبة غنية تضم مراجع بخمس لغات جمعها ونسّقها الأب المؤرّخ عمانوئيل بعبداتي رئيس الدير آنذاك والرئيس العام للرهبنة لاحقا علما أنّ هذه المدرسة نُقلت من دير مار انطونيوس- بعبدا سنة ١٨٦٥ إلى دير القلعة- بيت مري، ثم إلى دير مار أشعيا. وبعد خمسَ عشرةَ سنة على فترة التأسيس راجت مجلة “كوكب البرية” اللقب المرافق للقديس أنطونيوس شفيع الرهبان وبعد ثلاث سنوات ١٩٠٨ بدأ إصدارها من دير مار أنطونيوس الحدت لتأتي الحرب الأولى وتدمر في طريقها الفكر والكلمة كما الحجر والبشر.
يرتدي دير مار أشعيا الراهب أهميّة بعيدة نظرا لأنه يعود في القِدم الى أسس الرهبنة الأنطونية ومأسّستها. فهو المؤسسة الرهبانية والروحية والرعوية والزراعية الأم في الرهبانية الأنطونية، منه ينهل الأنطونيون العبق الأوّل، ويستلهمون لمسارهم الرّوحي الخطوات السديدة، وكلّما أصابتهم الحرب وجعًا أو الواقع الاجتماعي ألـمًا لاذوا باركان الدير يطيّبون جراحَ القلب بمنابعِه المبلسِمة صلاةً ووحيًا إيمانيًّا.
وكما المطارح الأنطونية المباركة أراد كفرُ الحرب أن يجرّبها كذلك دير مار أشعيا نال من الحرب حصّة التهجير والبُعاد. لذا، شاءت الرّهبنة الأنطونية أن تجعلَ منه مركزيّة محصّنة وأيقونة مسمّرة على حوائط تاريخها المديد فسمّته ديرا للحياة الجَماعية، والصلوات الجمهورية، وحافظت فيه على مرّ الازمان بالقرّاية الشهيرة حيث يتحلّق الرهبان حولها لتلاوة صلاة الفرض باللغة السريانية. أنتجت القرّاية نهجًا ومدرسة من الألحان السريانية ميّزا الرهبانية وفي الوقت عينه تحوّلا إلى مدرسة ليتورجية.
كم كثر الرهبان في هذا الدير، ودفقوا أمواجا مؤمنة فأضاءوا مصابيح دعواتهم بزيته مذ قرّر المجمع العام رفع سن الابتداء إلى الثامنة عشرة، ليشهد على مدى أربعة عقود ولادة روحيّة ونماء رهبانيا قلّ نظيرُه على المستويات الروحية والليتورجية، والاجتماعية، والتربوية والوطنية أدّاها مئة وخمسون راهبًا عشراتِ المرّات ومئاتِها، وأدخلوا بأسلوبهم ونهجهم وإطلالتهم أمام الجمهور الروحَ الكنسية الى القلوب، والمزايا المارونيّة الى العقول جاعلين من مار أشعيا ديرا جاذبا للمبتدئين في المتن، حيث انتشرت مدارسهم ورعاياهم وشدّوا أواصر العلاقات في عزّ الحرب مع شباب لبناني كاد أن يضيع في متاهة لغة العنف والقتل فشدّه خيط ثوب الرهبان الأنطونيين الى حقل الكنيسة ليبدأ معهم مشوار سلام روحيّ توّج بسيامة رهبانيّة.
من قلب دير مار أشعيا الى قلوب الرعايا، نبض وخفق روحيّ وكلمة ربّانيّة نشرها الأنطونيون فزادوا وزنات الدعوات واستثمروا رسالتهم بين الناس المؤمنين وأولئك التائقين الى الإيمان وشهدت رعايا عدّة -كبرمانا، المزكّة، العيون، جورة البلّوط، نابيه، المسقى، الغابة، رومية المتن، السفَيْلة، صليما – حضورًا أنطونيًّا رئيسا في كنائسها، وانسحبت الخدمة الأنطونية على أديار الرّاهبات إحياء للقداديس والوعظ في دير راهبات الصليب – برمّانا، دير مار ضوميط، دار الرحمة، دير راهبات اللعازرية – برمّانا، راهبات مستشفى ضهر الباشق. ولم تقتصر الخدمة الأنطونية على القداديس بل الإرشاد للحركات الدينية والتأسيس للجوقات والتعليم الكنسي والحياة الليتورجيّة.
وفي دير مار أشعيا ترى أفواجا من الرعايا ترمي تعبها ويومياتها في رحابه، وتتهيكل صلاة ورياضة روحية ووقفات تأملية بجوار محبسة وصومعة أمّها رهبان أنطونيّون تاركين خلفهم الدنيا وانبهاراتها ليُبهروا ذواتِهم بشعاع ربّانيّ ومنهم الأخ سابا نصرالله سركيس من عبيه، هو مَن عاش مع إخوته في الدير حوالى عشرين سنة بالفضيلة والإماتة والتقشف، ثم ناشد إخوته ورئيسه الاباتي سمعان بلوني العيش منفردًا في محبسة بناها قرب الدير وأمضى فيها أياما صلاة متبرّدا بماء روح الله حتى آخر نسمة من حياته في ٢٨ أيار ١٩٠٠ (قضى الأخ سابا ثلاثَ سنوات في محبسة دير مار عبدا ثم تسعَ عشْرةَ سنة في محبسة دير مار أشعيا)، ليبقى حيًّا بعدها بآيات عِجاب نفسيّة وجسدية، أقام بفضلها النفوس والأجسام من السقام فبرأت من مَعين دعوته الأنطونية ولقائه بالنبع الإلهيّ صعودا الى فوق.
حياة التنسّك الأنطونيّ تجدّدت في الأول من تشرين الأول ألفينِ وستّة عشَرَ (٢٠١٦) مع دخول الأب منير-شربل بو داغر إلى المحبسة الجديدة، فكان دخوله تجديدًا للحجر وللعهد بالتكرّس أمام الله في صلاة دائمة.
رئيس الدير: الأب مارون بو رحّال
قيّم الدير: الأب يوسف الفخري
معلّم الابتداء: الأب روبير المعماري
هاتف: 24/960076 – 24/961176 – 24/862813
فاكس: 24/862814