تاريخ الرهبانية

هنالك، حيث الدَّيرُ مُسوَّرٌ بغابةِ صلاةٍ تُنبتُ جذوعَ دعواتٍ على تلّةِ عَرَمتا قربَ برمّانا، تكرَّسَ المدعوُّونَ الثلاثةُ في الحياةِ الرُّهبانيَّة وشكّلوا الـحُبَيباتِ الأولى في الأيقونةِ الزرقاءِ الـمُندَّاةِ من جبينِ الرَّبّ، لكن، لأنَّ الآلامَ الآتيةَ كثيرةٌ فسوفَ يتفتّحُ من الأيقونةِ صليبٌ تعلّقُهُ الأيادي الـمُمَيرنةُ بزيتِ التَّثبيتِ الرُّهبانيِّ على صدرِ رهبانيَّة لها مع الزَّمنِ وسعُه، مع حروبِه وجعُها، ومع التَّرهبُنِ رهبانٌ مصلُّونَ متنسِّكون، أجسادُهم في الأرضِ، وعيونُ قلوبِهم تعانقُ بنبضِ تأمّلاتِها أهدابَ السَّماء.

المسيرة

هذه المسيرةُ الأنطونية بتعدّدِ وجوهِها وأماراتِها وملامحِها الروحيَّةِ في مرايا الإنسانِ والعلمِ والمجتمعِ والكلمةِ من قلبِ لبنانَ الى مغاربِ العالم، لا يمكنُ العبورُ بها من دون أن يستوقفَ العابرينَ زمنٌ عميقٌ في التاريخِ أنجبَ اسمَ رهبنةٍ له وقعٌ في قلبِ السَّماءِ كما في وجهِ الأديم. زمنُ رهبانٍ أنطونيِّينَ أهرقوا حبَّهم يسوعَ على مذابحِ لبنان، وجَوْهَروا حياتَهم بذهبِ شموسِ السَّماءِ فوق جبالِه. إنه زمنُ تكسُّرِ أضلاعِ الرُّوحِ قربانًا في كأسٍ شربها يسوعُ حتى آخرِ جرحٍ في خاصرتِه، وها همُ الرُّهبانُ، أبناءُ أنطونيوسَ الكبير، أبناءُ أبي الرُّهبان، يضمّدونَ بالكلمةِ والبشارةِ والرِّسالةِ وجعَ المسيحيَّة، ويعمُّون لبنانَ وبلادَ العالمِ بأديرةٍ ومواقِعَ راسخةٍ في التربة، مصخَّرةٍ في أرضِ اللهِ الواسعة، رافعينَ على صدورِهم صليبًا أزرقَ يتماهى ولونَ السَّماءِ منذ مئةٍ ومئةٍ ومئةٍ والى أبدِ الآبدينَ يبقَونَ أنطونيِّين، آمين.

تاريخ ورسالة

منذُ أن أفاحَ اللهُ بخورَه وضوَّعه في السَّماء، توشّحت جبالُ لبنانَ بغيمةٍ زرقاءَ ندَّت على أرضِه أيقونة، تحرسُ هذه الأرضَ من توالي قاسِياتِ الأزمنةِ عليها…

أيقونةٌ علّقها اللهُ على مذابحَ مبارَكةٍ قبلَ مئاتٍ ثلاثٍ حين حملَ رهبانٌ زادَ الرعايةِ والتنشئةِ الرّهبانيّةِ في ديرِ سيِّدةِ طاميش من مَعينِ مِطرانِ حلبَ جبرائيل البلوزاوي ليثبِّتوا دعوتَهم عامَ ألفٍ وستِّ مئةٍ وثمانيةٍ وتسعينَ (١٦٩٨) في ديرٍ وضعَ لَبِنتَه الأولى الأسقفُ البلوزاويُّ على اسمِ القدّيسِ أشعيا الحلبيِّ بين منعطفاتِ لبنانَ المتنيَّة، فشيَّدوه وأعلَوا بُنيانَه بالحجرِ وخطُّوا فيه الرّسالةَ الفِطريّةَ لرهبانيَّةٍ شرقيّةٍ أصيلةٍ تتماهى وحياةَ الرّهبانِ السَّابقينَ القنوبيِّين بإيحاءٍ من مرشدِهم المِطران، هو مَن مارسَ حياتَه الرّهبانيَّةَ ومَرّنَ أضلعَ قلبِه على الشَّغفِ باللهِ بين صخورِ قنوبينَ وفي محابسِ وِهادِها.

هنالك، حيث الدَّيرُ مُسوَّرٌ بغابةِ صلاةٍ تُنبتُ جذوعَ دعواتٍ على تلّةِ عَرَمتا قربَ برمّانا، تكرَّسَ المدعوُّونَ الثلاثةُ في الحياةِ الرُّهبانيَّة وشكّلوا الـحُبَيباتِ الأولى في الأيقونةِ الزرقاءِ الـمُندَّاةِ من جبينِ الرَّبّ، لكن، لأنَّ الآلامَ الآتيةَ كثيرةٌ فسوفَ يتفتّحُ من الأيقونةِ صليبٌ تعلّقُهُ الأيادي الـمُمَيرنةُ بزيتِ التَّثبيتِ الرُّهبانيِّ على صدرِ رهبانيَّة لها مع الزَّمنِ وسعُه، مع حروبِه وجعُها، ومع التَّرهبُنِ رهبانٌ مصلُّونَ متنسِّكون، أجسادُهم في الأرضِ، وعيونُ قلوبِهم تعانقُ بنبضِ تأمّلاتِها أهدابَ السَّماء.

عشيّةَ ولادةِ القرنِ الثامنَ عشرَ، كان الرَّبُّ لا يزالُ ماضيًا في خَلقِه الروحيّ. كانت يداهُ تنسجانِ أثوابًا رهبانيَّةً يحيكها بنولِ خيوطِ الفجر ويُسدلُها مع شروقِ شمسِه جبّةً سوداءَ على قاماتِ شبابٍ نذروا حياتَهم للمسيح، للمعلِّم الأوَّل.

حينها كان الربُّ يَعلمُ أيَّ رهبنةٍ يريدُ ليُفيضَ خمرَ عشائِه في كؤوسِ رهبان سيصلُّون خميسَ أسراره في كلِّ قدّاسٍ وذبيحةٍ إلهيَّة، فأضاءَ النجمَ في عتمةِ الزَّمانِ وأنارَ دروبَ الآباءِ الثَّلاثة: الخوري سليمان الحجّة المشمشاني، والقسّان عطاالله كريكر الشبابيّ، وموسى زمّار البعبداتيّ ليحتفلوا بقدَّاسِهم الأوَّلِ في ذكرى انتقالِ السَّيِّدةِ العذراءِ عامَ ألفٍ وسبعِ مئةٍ (١٧٠٠)، وقد شاءُوا ما شاءَ لهمُ الرَّب: حياة رهبانيَّةً يحتذون فيها القدّيسينَ مِثالًا، يبشِّرونَ أينما حلُّوا بالإنجيل، ويُطيعونَ أمَّهم الكنيسةَ ورؤساءَهم البطاركةَ المبارِكِينَ رسالتَهم: “إسطفان الدُّويهي وجبرايل البلوزَاوي وسمعان عوَّاد”، في ظلِّ مرجِعيّةٍ بابويَّةٍ منحَهم بها البابا إقليمنضوس الثاني عشرَ بركتَه فثبَّتَ أركانَ رهبنتِهم الأولى عامَ ألفٍ وسبعِ مئةٍ وأربعينَ (١٧٤٠) في نصِّ براءتِه البابويَّةِ الـمُعنوَنة “أبو المراحم”، مُرفقةً بحقٍّ حَبريٍّ يشملُ حقوقَ هذه المؤسّسةِ الرهبانيَّةِ وامتيازاتِها، من بينها شراكةُ قدّاساتِ السَّبت المسمَّاةِ صلاةَ الحَسَنة.

منذ ذاك الحين، والرُّهبانُ يتكاثرونَ،ينمُونَ كما القمحُ في سهولِ الرَّهبنة، لكنّ سهولَهم لم تكنْ منبسِطة، دونَها تعرُّجاتٌ وجلجلاتٌ ومواقعُ جغرافيَّةٌ غيرُ مسيحيَّةٍ في حلقةٍ طائفيَّةٍ لبنانيَّةٍ يعادلُ مسلموها ودروزُها مسيحيِّيها، وفي بعضِ المناطقِ يفوقونَهم عددا، إلا أنّ جوهرَ الأنطونيَّةِ وصلواتِ رهبانِها المرتفعةَ جرَسًا من ديرِهم مار أشعيا الى مسامعِ قلوبِ النَّاس، وفي مقدّمهم أمراءُ أبي اللمع الدروز، بيّنت أن الأنطونيين يخطون مستقيمين في سكّة المسيح إرشادًا تعليمًا ورياضاتٍ روحيَّة، خلبت ألبابَ الأمراءِ اللَّمعيِّين ليعتنقَ بعضُهم الديانةَ المسيحيَّةَ بفعل الابتهالاتِ الأنطونيَّة.

تلك الابتهالاتُ تعالت من أروقةِ الدير في خلواتٍ صلاتيّة قرّبها الآباء المؤسّسون على غرار الحبساء القنوبيِّينَ تسبيحًا وتنسُّكًا، إنْ في حنايا الدير داخلَ قلّاياتٍ معزولةٍ عن الدُّنيا، وإنْ في محبسةٍ على مرمى روحٍ وقلبٍ منه! بعضُ الحبساءِ ذهبَ الى التَّصَومُع في الجنوبِ والمتنِ وإهدنَ ونهرِ الكلب حيث المحبساتُ تسمَّت على أسماءِ القدّيسينَ الرُّسل، وحجارتُها تسترجعُ ذاكرةً نُقِشَت فيها علاماتُ القداسةِ وانتشرت من تربتِها رائحةُ الأرضِ المثمِرةِ تضرّعًا للسَّماء…

هكذا، وعلى سَجيّةِ إيمانِ الأقدمين، على بَدَهيَّة التشبُّثِ بتربةِ الأرضِ للاستسقاءِ عليها من ديمةِ السَّماءِ مطلَعَ المواسم الممطرة، والاهتداءِ بأنوارِ الطبيعة لإنارةِ عتماتٍ مُداهِمة… هكذا خطا أولئك الآباءُ الرُّهبانُ المجدِّدونَ خطواتِهم نحو مذابحِ الأنطونيَّةِ من دون تسميةٍ واضحة، بل بخشوعٍ عفويٍّ تخطَّى تحديدَ القوانينِ بداية، فمَهروا أسماءَهم على اسمِ الرَّبِّ، آباءً مدعوِّينَ لخدمةِ المذبحِ على سجيَّة دعوتِهم من دونِ مرجِعٍ قانونيٍّ يحدّدُ طريقَهم أوّلَ مشوارِهم.

على خُطى القدِّيس أغسطينوس وتأثُّرهِ بالقدِّيس أنطونيوسَ الكبير بدا التَّكرُسُّ قانونَ مُختاري الأنطونيَّةِ مسارًا لهم ، والالتزامُ الطوعيُّ طاعتَهم، والتَّماهي بالله عفّتَهم، واتِّباعُ كلامِ الرَّبِّ وإنجيلِ يسوعَ فقرَهم الأغنى من أيِّ غِنًى، وهكذا صارَ انتماؤُهم للكنيسةِ المارونيَّةِ اتحادَهم بالأرضِ والوطنِ والانسان، وشهادتُهم المشرقيَّةُ رسالتَهم المخطوطةَ بحبرٍ من خمر.

في السَّنواتِ القليلةِ المتتاليةِ حتّى الألفِ والسّبعِ مئةٍ والأربعينَ (١٧٤٠)، كانتِ الخميرةُ في مَعجنِ الرُّوحِ ترفخُ رهبانًا وأديارًا من تِلقائها كلَّما أضافتِ الحناجرُ تنهيدةَ الطِّلباتِ ساكبةً هَمهماتِ الصَّوتِ قطراتِ شموع، هكذا كان المجدِّدونَ يعيشونَ يوميّاتِهم المكرَّسةَ على مثالِ أبي الرُّهبانِ مار أنطونيوسَ من دون تسميةٍ أو قانونٍ، إلى أن عَمّدَ البطريركُ إسطفانُ الدُّويهيُّ انطلاقتَهم بروحانيَّةِ مار أنطونيوسَ وقوانينِ ترهُّبِه، ونِيلَ الأنطونيُّونَ في ما بعد الحقَّ الحَبريَّ بناءً لِما فرضَه المجمَعُ اللُّبنانيُّ عامَ ألفٍ وسبعِ مئةٍ وستَّةٍ وثلاثينَ (١٧٣٦) النَّاصُّ على أنَّ التَّسميةَ الرّهبانيَّةَ مستحقَّةٌ من روما.

ومذ ذلك العامِ الأربعينَ بعد الألفِ والسَّبعِ مئةٍ (١٧٤٠)، والأنطونيُّونَ يُوالُون الدَّيرَ تلوَ الدَّيرِ في بقاعِ الوطنِ أشبهَ بشجرِ ربٍّ يتحدَّى عبثَ الرِّيحِ وخُبثَ التَّجاربِ والمخاطرِ المحدِقةِ بهم، فتراهُم يذهبونَ إلى البعيدِ ليقرِّبوه، ويَعبرونَ صوبَ الحدودِ ليَحُدُّوا من غربةِ الإنسانِ عن عمقِ أرضِه، ويصطادوا الأماكنَ النَّائيةَ بصنَّارة المعلِّم، ويُفردوا لأديارهِم مِساحاتٍ تسَعُ المؤمنينَ من الجبلِ الى المتنِ فالسَّاحل، وبجوارِ أبناءِ طوائفَ أُخرى.

هُم بأيديهم وهمَّتِهم وهندستِهم الدينيَّةِ رسموا معالمَ أديارِهم ليجعلوها أبياتَ صلاة، أبياتًا كثيرةً لرُهبانٍ كُثُرٍ يرسمونَ، بخطِّهم المديدِ ووقوفِهم على المذابح، صورةَ اللهِ على الأرضِ في لبنان، لبنانَ كلِّه، وحتى خارجَ لبنانَ حين يخرجونَ من حالِ التّنسُّكِ الى خدمة الرَّعايا في مراكزَ عمَّت أكثرَ من بَلد.

فالتنسّكُ الأنطونيُّ دامَ زُهاءَ مئتَيْ سنةٍ بدءًا من تَبَرعُمِ الأنطونيَّةِ في مَهْد التَّرهبُنِ وصولًا الى الأديارِ ذاتِ الاستقلاليّة، وامتدَّ سجودُ النُّسَّاكِ الأنطونيِّينَ من القرنِ الثَّامنَ عشَرَ حتّى أواخرِ التاسعَ عَشَر قبل أن تدهَم لبنانَ عساكرُ حربٍ طويلةِ النَّفسِ قصّرت أعمارَ البشر، ومديدةِ الوقتِ والأمكنةِ خرّبت في دربِها مواقعَ مركزيَّةً في الوطنِ لا سيَّما أديارِ الرَّهبانيَّة الأنطونيَّة، وشتّتتِ الكثيرَ من رهبانها. لكنَّها لم تتغلَّب على زمنٍ رُهبانيٍّ سوف يبقى ويمتدُّ لمئةٍ أُخرى، ويُعيدُ ترميمَ الجروحِ وكَيَّها بنارِ الإيمانِ الطالعِ من رمادِ الحروب، ولن تُعفِيَ الأنطونيَّينَ من أداءِ فعلِ التَّنسُّكِ حتّى في الألفيَّةِ الثَّالثةِ، إذ بعدما تنسَّكَ عشرةُ رهبانٍ في المسيرة الأنطونيَّةِ التَّاريخيّةِ، أدَّى ثلاثةُ رهبانٍ خبرةً نُسكيَّةً في قلبِ الدَّير، وها اثنانِ منهم (الأب منير-شربل بو داغر والأب روجيه وهبه) يُكملانِ عددَ تلاميذِ المسيحِ المتنسِّكينَ في الأنطونيَّةِ في العامِ ألفينِ وستّةَ عشَرَ (٢٠١٦)، ويؤدِّيانِ أُسوةً بمن سبقوهما عشاءَهما السِّرِّيَّ خمرًا وخبزًا وسَكرةً باللَّهِ في محبسَتَيهما الجديدتَيْنِ: مار شربلَ في جوارِ ديرِ مار أشعيا، ومار يوسفَ في جوارِ دير مار بطرسَ وبولسَ – قطّين.

زمنُ التنسُّكِ المتقطّعُ ترافقَ وحروبًا عبرَ التَّاريخِ استُبيحت فيها الأديرةُ فَخَفتَ قرعُ أجراسِها على وقعِ قرقعةِ السِّلاحِ وصليلِه، وحفِّ الجراحِ في عمقِ الوجع. حروبٌ داميةٌ في الألفِ والثماني مئةٍ والسِّتِّينَ (١٨٦٠) لم تسلمْ فيها أجسادُ الرُّهبانِ الأنطونيِّينَ من الذَّبحِ لتشهَق أرواحُهم من تحتِ قبابِ ديرِ مار روكز الى بيوتِ اللهِ المقدَّسَةِ، فيما جيشُ البابِ العالي يُعيثُ في الدَّيرِ خرابًا هنا، وينشرُ رائحةَ الموتَ هناك، ويطردُ رهبانًا من دارهِمِ الدَّيريَّةِ ليُنزلَ مكانَهم عديدَ جيشِه،ويحوّلَ أقبيةَ الصَّلاةِ والتَّنسُّك، بعدما كانتِ استعدادًا للقاءِ وجهِ الله، إلى مرابضَ لخيولِه المطهَّمةِ استعدادًا لخوضِ غبارِ الحربِ-الخطيئة، ويجعلَ عتباتِه المشرَّعةَ للمؤمنينَ حواجزَ تصدُّ عنهم أبوابَ الكنيسة، وهذا ما انسحَبَ جرَّاءَ عبثيَّةِ الحربِ على ديرَي مار يوحنَّا القلعة – بيت مري ومار أشعيا.

هذا الدَّمارُ الحجريُّ والإنسانيُّ انقضَّ على ديرِ مار أنطونيوسَ في جزّينَ حيث وارتِ السِّنونَ في أرضِه مقبرةً جماعيَّةً التقى فيها ترابُ أجسادِ خمسةٍ وعشرينَ شهيدًا راهبًا ومؤمنًا أرداهُمُ العثمانيُّ بوحشيَّةٍ لم تُراعِ قدسيَّة المكان.

نفَسُ الحربِ الطويلُ امتدَّ لعقودٍ وعقودٍ حتَّى الحربينِ الأولى والثَّانيةِ العالميَّتَين، ونالت أديارُ الأنطونيِّينَ نصيبًا وافرًا من الدَّمارِ والاحتلالِ ومحاولةِ طردِ صوتِ الرَّبِّ من أروقتِها وكنائسِها فخسِرَ الأنطونيُّونَ حفنةً لا يُستهانُ بها من آباءٍ كانوا، يومَ اجتمعوا حول خبزِ الرّب، مئتين وسبعين راهبًا (٢٧٠) عامَ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وعشَرةٍ (١٩١٠) في لبنان، فصاروا – يومَ تفرّقوا بفعلِ الجوع – دون المئةِ راهبٍ (١٠٠) عامَ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وثمانيةٍ وعشرينَ (١٩٢٨)!

 أنطونيُّونَ بالمئاتِ هجّرهمُ الجوعُ الى بلدانِ العالمِ ليختفيَ أثرُ كثيرينَ منهم على غرارِ اختفاءِ الأبوَينِ ألبير شرفان وسليمان أبي خليل في دير القلعةِ – بيت مري لاحقًا عامَ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وتسعينَ (١٩٩٠).

إنها حروبُ الخارجِ في الدَّاخل، وحروبُ الدَّاخل في الدَّاخل!

حروبٌ تتشابهُ في إرخاءِ وزرِها على صدرِ الوطنِ وكاهلِ الأديارِ الأنطونيَّةِ وفي واحاتِ التَّعليمِ الأنطونيِّ المجّانيِّ للإنجيلِ ورسالةِ يسوع. حروبٌ فتّتت حجارةَ الأديارِ فأقفرت مدارسُ الأنطونيِّين من صغارِها وشبَّانِها، وأظلمتِ المعابدُ من قناديلِ زيتٍ سَرجَها الآباءُ بخيوطِ جِبابِهم في غلَسِ رحيلِهم القسريِّ، وحملوها ليقرعوا بابَ الربِّ في مشاعاتٍ مفتوحةٍ على احتمالاتِ العَراء. والربُّ في الموازاة، يفتحُ لهم احتمالاتِ أمكنةٍ في زمنٍ عاتٍ ليلتقطوا أنفاسَ صلواتِهم حيثما حلُّوا، فركبوا متنَ السفنِ ليُبحروا صوبَ رعايا جديدةٍ يصطادونها ويشيّدونها في الخارج على اسمِ الرَّبِّ، وباسم الأنطونيِّين.

وفيما الحربُ العالميَّةُ الثانيةُ تلفظ آخرَ أنفاسِها، والشَّتاتُ يلملمُ بعضَه، والفكرُ الشيوعيُّ يغرسُ في القلوبِ والأذهانِ فكرةَ تأميمِ الأديارِ باسمِ النَّاسِ والشَّعب، رجِع الأنطونيُّون – مَن بقي منهم – الى أديارهِم الأولى يفتحونَ أبوابها مخافةَ إقفالِها وتحويلِها منصَّةً لشعبويَّةٍ شيوعيَّة، وراحوا يتجمّعونَ في الأديارِ الكبرى الواقعةِ عند الحدودِ بين طائفتَيْنِ كُبْرَيَيْن: “المسيحيَّة والمسلمة”، و”المسيحيَّة والدُّرزيَّة”، تِبعًا لرسالةِ الأنطونيين: إنماءُ الأديارِ وإكثارُها في جوارِ المسلمينَ والدُّروزِ لتمتينِ الأخوَّةِ والجِيرة. عاد الأنطونيُّون ليُعيدوا بناءَ أديارِهم بشعبيَّةِ المسيحِ وجمهَرَةِ الرُّوحِ والإيمانِ وفروضِ الصَّلاة، وراحوا يبنونها حجرًا ليسكنَها البشر، يرفعونها علامةً رُهبانيَّةً أنطونيَّةً جَهارًا في وطنٍ سقطت أعضاؤُه البشريَّةُ بين ركامِ الحروبِ، فآنَ أوانُ القيامة.

عادوا، والشَّوقُ الى مطارحِهم يُكبِرُ الإيمانَ في ألبابِهم، فما أصابهم من تشرُّدٍ ولجوءٍ وقتلٍ واستشهادٍ لم يُرجع الى الوراءِ تقواهم بل كان إشارةً ونعمةً لمشاركتِهم السيِّدَ المسيحَ في جزءٍ من مراحلِ آلامِه نحو الجلجلة، وللتقدُّمِ في سبيلِ استكمالِ عمارةِ الرَّهبنةِ الأنطونيَّةِ الروحيَّة ومراكزِها الدينيَّة للرِّسالةِ الرُّهبانيَّة، وراحوا بأيديهم المقرِّبةِ القرابينَ يشيِّدونَ في هيكلِ زمانِهم المزيدَ من الأمكنةِ على اسمِ الله، يرفعونَ بنيانَهم ليُلامسَ وجهَ الله، ويكونَ على تماسٍّ مع خيالِ حضورِه خلفَ شمسٍ يُشرقُها على أبنائِه كافَّة.

من يومِها، لم تغربِ الشمسُ عن مراكزِ الأنطونيِّين المتناميةِ في لبنانَ مع مواسمِ الخيرِ والبركة.

مثلما يزرعُ الزارعُ موسمَه ببِذارٍ يقتاتُها ليَسدَّ جوعَ الجسد، هكذا الأنطونيُّونَ راحوا يغرسونَ بذارَ الصَّلاةِ في أديار قديمةٍ جدَّدوها، وجديدةٍ افتتحوها، ليُغذُّوا لا روحَهم وحدَها بل روحَ رعايا خدموها بعنايةِ الأبِ لأبنائِه، وروحَ أبناءِ كنيسةٍ ضمُّوهم كما الكنيسةُ تضمّ شعبَها إلى شِعابِها مطارحِها، فأَشركوهم منذ ستينيَّاتِ القرنِ الماضي في حظيرةِ الخرافِ الصَّالحينَ وتشاركوا وإيَّاهم التُّربةَ ثَلمًا وَزَرعًا وثمارًا، جاذبَين، كما المعلّمُ الصيَّاد، الشعبَ الى أراضيهم بصنّارةِ الأغصانِ لتتسعَ المطارحُ لعائلاتٍ في أديرةٍ شكَّلت ضِياعًا أخرى في قلب مِضياعِهم ومناطقِهم.

هكذا كبُرتِ العائلةُ الأنطونيَّة، فوجدتِ الرَّهبنةُ الأنطونيَّةُ ضرورةَ ضمِّ جمهورِ أديرتِها والرَّعايا حيث انتشرَ رهبانُها في مساكنَ تُؤويهم وتخفّفُ عن كاهلِهم أعباءً ماليَّة، فركّزت- غداةَ الحربِ بين الثَّلاثةِ والتسعينَ ومطلعِ الألفيَّةِ الجديدة (١٩٩٣ – ٢٠٠٠)- دعائمَ الأبنيةِ في عوكرَ وإنطلياسَ وعينَ سعاده والحدت، وسهّلت على السكّانِ تسديدَ أقساطِ بيوتِهم في ظلِّ حياةٍ قَسَت على اللبنانيِّينَ طِوالَ سنواتٍ ودمّرت سقوفَ ديارٍ احتَموا تحتَها.

إستكمالًا لحبرِ الرِّسالة، عمَّم الأنطونيُّونَ دعوتَهم في أيِّ دربٍ تقودُهم الى النَّاسِ وتقودُ الناسَ إليهم، فشرّعوا بوَّاباتِ مدارسِهم الأنطونيَّةِ لتلامذةٍ أنشأهم الرُّهبان على خُطى المربِّين المسيحيِّين الأوائل، وواصلوا معهم مشوارَ التَّعليمِ حتى الجامعة، فأرسلوهم الى غمار الحياة، وأدخلوا بعضَهم الى حقلِ الدَّعواتِ لتشكّلَ الرّسالةُ الأنطونيَّةُ التربويَّةُ صفحةً مشرقةً في ضوءِ رسالتِها المسيحيَّةِ تعليمًا وتنشِئَة، ترتدي طابعًا فريدًا بين مدارسِ لبنانَ عبرَ أَسِّ المدارسِ الأنطونيَّةِ لخدمةِ الجيلِ والمجتمعِ والوطنِ ومذبحِ الكنيسة.

بهذه الوزناتِ المتكاثرةِ مدَّ الأنطونيُّون جسورَهم الرُّهبانيّةَ بين جهاتِ لبنانَ الأربعِ شمالًا بقاعًا جنوبًا وسهلًا، بعدما تفتَّحتْ نَواتُهم الرُّهبانيَّةُ في المتن، وملأوا الفسحاتِ الخضراءَ بخورًا ولُبانًا وتراتيلَ وصلوات، فتنادتِ الأديرةُ على الأديرة، ورقّت حجارتُها على صلابتِها مرنّمةً مِلءَ لبنانَ دعاءاتٍ أنطونيَّةً تصاعدت من رحمِ البدايات، من ديرِ التَّجدُّد “مار أشعيا” ولتُنجبَ الرَّهبنةُ على مرِّ الأعوام – على مدى ثلاثِ مئويَّات إلى اليوم، من ذاتِ الرَّحم – ثلاثةً وثلاثين ديرًا ومركزًا رعويًّا وتربويًّا في رحابِ لبنانَ، بينها خدمةٌ أنطونيَّةٌ في خمسٍ وثلاثينَ رعيَّة.

… وهي تصلّبُ بيدٍ على وجه قبابِ الأديارِ وتتلو الأبانا في هذا الشرق، مدّتِ الأنطونيَّةُ يدًا صوبَ الغرب سبعَ مرَّاتٍ مكرِّسةً سبعةَ أديرةٍ نمت في قلبِ قلبِها الكنائسُ، وأنبتت دعواتٍ وأطلقت رسالاتٍ أنطونيَّةً بين جمهورِ المؤمنين المتوافدينَ الى محرابِ هذه الأديارِ توافدَهم الى بلدِهم الأمِّ لبنانَ في اثنتينِ وعشرينَ رعيَّةً يخدمُها الرُّهبانُ الأنطونيُّون خدمتَهم الرَّبّ.

والخدمةُ داخلَ أديارِ الرُّهبانِ الأنطونيِّينَ المتعتّقةِ في خوابي زمنٍ كنسيٍّ مارونيّ، هي خدمةُ أديارٍ ذاتِ طقوسٍ سُريانيَّةٍ تتردّدُ معها تحت سقفِ الكنيسةِ الأنطونيَّةِ صلواتُ السَّواعي، الصّلواتُ التراثيّةُ السُّريانيَّةُ، بوفاءٍ لحروفِ هذه اللغة وجوهرِها، تحفظُها تمتماتُ الأنطونيِّينَ وقراءاتُهم إلى اليوم بتمايُزٍ عن سائرِ الرَّهبناتِ في لبنانَ انعكاسًا لأصالةٍ أنطونيَّةٍ تعودُ الى مطالعِ المارونيَّةِ المشرقيَّة، يتشبّثُ بها هؤلاءُ الرّهبانُ بالأداءِ المشفوعِ بابتهالٍ إلى اللهِ في أزمنةِ الكنيسةِ الطقسيّة: الميلاد، والدِّنح، والصَّوم، والقيامة، والعنصرة، والصَّليب.

ولأنّ هذه الرهبنةَ لا تكلُّ ولا تني عن نشرِ كلمةِ الخالقِ في عدادِ رعايا تجاورُ أديارَها، وفي صفوفِ مؤمنينَ يؤمّونَ مراكزَها، وجمهورِ مصلِّينَ يحجّونَ إلى مذابحِها، عمِل الأنطونيُّونَ ضمنَ رسالتِهم – فضلًا عن حمايةِ كنوزِ السُّريانيَّةِ تحت سقفِ أديرتِهم – عمِلوا على ترجمةِ التُّراثِ السُّريانيِّ إلى العربيَّةِ كما وشّحوا الكلماتِ الإيمانيَّةَ ترانيمَ وتراتيلَ بلغةٍ موسيقيَّةٍ شرقيَّةٍ أسَّها الأبُ بولسُ الأشقر بين الجوقاتِ وفي المدارسِ سَماعًا وكتابةً عبر كتبهِ في الموسيقى والألحانِ والمزاميرِ لتَلقى هذه الموسيقى الروحيَّةُ صدًى يتجاوبُ على مرِّ سنينَ وعقودٍ مع آباءٍ أنطونيِّينَ تقدَّمهم زمنيًّا الأبُ ألبير شرفان ويوسف واكد في المعهدِ العالي للموسيقى والمعهدِ الموسيقيِّ في بعبدا.

وكأنَّ هذه الرهبنةَ بدّلت مسارَ الترهبُنِ داخلَ الأديارِ، وواكبتِ العملَ في الأرضِ وبناءَ الحجارة بعملٍ على الأرضِ لبناءِ الانسان. فمع تجذرِّها في القديمِ التراثيِّ وتواضعِ الحياةِ الرُّهبانيَّةِ كسنبلةٍ تتّكئُ على ذهَبِها بخشوعٍ يمحو أيَّ كبرياء، وفي عزِّ انغراسِها بالزراعةِ وتجذُّرِ يدِها بمواهبِ الطَّبيعة، أطلّت هذه الرَّهبنةُ على النَّاسِ وجاورتِ الرَّعايا بأديارِها والتفتت صوب الشَّبيبةِ لتبذرَ فيها الغرساتِ الإيمانيَّةَ عبر المعرفةِ التربويَّة، وصارتِ الأنطونيَّةُ اسمًا رُهبانيًّا متوائمًا والتعليمَ بحبلِ سّرةٍ يربطُ تكوُّرَ الصَّلاةِ في جَوّانيَّة الإنسانِ بتكوّرِ الحرفِ على شفاهِه، فكانتِ المدارسُ تلك الرِّسالةَ المتفرِّعةَ من أغصانِ شجرةِ الأنطونيِّينَ الوارفة، لأنَّ التربيةَ تتلازمُ والكنيسةَ الأمَّ-المعلِّمة. فالمسيحيُّونَ الأوائلَ عكفوا على تلقُّنِ الحرفِ ليدرِّبوا أبناءَهم على القراءةِ والكتابةِ تثقيفا وتعَلُّمًا للإنجيل، الرسالةِ المثلى.

هكذا، صارتِ الأنطونيَّةُ مَعلَمًا للعلمِ علَّم علامةً في صفحةِ الكنيسة، ونشرَ الكلمةَ والمعرفةَ والحكمةَ في خطٍّ تربويٍّ عمَّ مدارسَ الأنطونيِّينَ الجديدةَ المتمايزةَ عبرَ نقلِها العلمَ من السِّنديانةِ الى زيتونٍ ربَّانيٍّ سامٍ فارعٍ يُنبتُ قصَباتٍ بشريَّةً تَغتني باللُّغاتِ والعلوم. وكانت “الحركة الثقافية” في دير مار الياس – انطلياس، أولى بوادرِ التعاونِ الثقافيِّ والفكريِّ مع رموزِ الثقافةِ وأعلامِ الفكر في لبنان، فأسّستِ الرّهبانيّةُ من خلالها منبرًا للفكر حرًا، وموقعًا للحوار فريدًا يجمع الى العلم الانفتاح والموضوعية في طرقِ المواضيع النسانية والوطنية المشتركة. هذا التطلّعُ الأنطونيُّ الرؤيَويُّ تربويًّا شكَّلَ مدماكًا آخرَ من مداميكِ هذا الصَّرحِ الرُّهبانيِّ المتسامقِ في كلِّ قضاءٍ ومحافظةٍ ضمنَ لبنان.

وتماشيًا مع هذا الانتشار، نشرتِ الأنطونيَّةُ عبر المجلَّاتِ والأبحاثِ والدِّراساتِ كلمتَها في التَّعليمِ والثَّقافة، واهتمَّت بإصدارِ خمسِ مجلَّات تنيرُ بها بفرحٍ حياة الشبيبة والأسرة بدءًا من “نور” مرورًا بـ”هللويا” وصولًا إلى “شبابُ اليوم” و”حياتُنا اللِّيتورجيَّة” ثمّ “العائلةُ المسيحيَّة”، وهي سلسلةُ منشوراتٍ أوْلَتْها الرَّهبنةُ الأنطونيَّةُ اهتمامًا للإطلالةِ على النَّاسِ أسبوعيًّا وشهريًّا وفصليًّا بعدما احتلّت مجلَّةُ “كوكبُ البريّة” مطلَعَ القرنِ العشرينَ مكانةً أساسًا في إصداراتِها الروحيِّةِ والاجتماعيِّة، لتليَها بالإشعاعِ الرّوحيِّ والفكريِّ مجلَّةُ “حياتُنا الأنطونيَّة” على مدى سنينَ بلغتِ الذهَبَ من العمرِ، وما يربو عنه.

المجتمعُ بأطيافِه ومشاربِه بجانبِ التَّربيةِ والتَّثقيفِ لم يكن بعيدًا عن اهتماماتِ الرَّهبنةِ الأنطونيَّة، فما تلمّسته هذه الرَّهبنةُ بشهادتِها للمسيحِ هو اللِّقاءُ بوجهِ الآخرِ أخًا وابنَ انسانيَّةٍ لا سيَّما المهمَّشينَ في السُّجون، وقد أسَّست لهذه الغايةِ جمعيَّةَ “عدل ورحمة” عامَ سبعةٍ وتسعينَ (١٩٩٧) لتدنوَ من أولئك المبعَدينَ عن المجتمعِ لتنفيذِهم أحكامًا صدرت في حقِّهم، فشكّلتِ الخيطَ بينهم والمجتمعَ الخارجيّ، ونافذةً توجيهيَّةً إرشاديَّةً يُطلّون من خلالها مع الرُّهبانِ الأنطونيِّينَ على حياةٍ جديدة، سِمَتُها الصلاةُ والتَّقرُّبُ من اللهِ للتكفيرِ عن أخطاءٍ أو خطايا. واستمرارًا في هذا النهجِ خصّتِ الأنطونيَّةُ الإنسانَ العاملَ والموظّفَ برعايةٍ ومتابعةٍ لشؤونِه الحياتيَّةِ وشجونِه فأنشأت مؤسَّسة “لابورا” عامَ ألفينِ وستَّةٍ (٢٠٠٦)، كما مرَّنتِ الشَّبيبةَ على حبِّ الطَّبيعةِ والوطنِ والمناقبيَّةِ عبرَ تأسيسِها كشّافةَ الاستقلالِ في النصف الثاني من القرنِ العشرين.

نص: الأستاذ بسّام برّاك