المعهد الأنطوني – الحدت – بعبدا

لبعبدا، هذه المدينة المحفورة في اسم الجمهورية اللبنانية، تاريخٌ وذاكرة في حرم الرهبنة الأنطونية. فهي المدينة المثل للعلم والحرف بالنسبة اليهم، وعلى أرضها مشت أجيال تلو أجيال صوب الأنطونيين تتلقى العلم في المعهد الأنطوني. والمعهدُ تعودُ جذورُه لديرٍ استلمه الأنطونيون من آل ياغي الحلو في القرن الأوّل من عهد رهبنتِهم عام الفٍ وسبعِ مئة وأربعة وستّين على اسم القديس انطونيوس. ومنذ مطلع القرن العشرين بُنيت المدرسة الأنطونية على أرض الدير بهمّة من المدبّر الاب يوسف الشدياق، ليبدأ المشوار الأنطوني مع مدرسة ستمسي في تاريخهم معهدًا تاريخيًّا يحملُ صدى الشهادات لبراعمَ فتيّة تفتّحت على مقاعد المدرسة – المعهد مذ متّن الأنطونيون مدارسَهم في المتن جنوبا وشمالا، وجذّروا الحرف في صخور تلال الحدت، بعدما تفرّق الرهبان في هجرة قسريّة فرضها عليهم الأتراك في الحرب العالميّة الأولى فلجأوا الى حارة البطم المعروفة بحارة الأمير يوسف داود شهاب، ليعودوا ويَتدَيرنوا في مكانهم الأمّ ويخدموا رعايا بعبدا وسبنيه والحدت بالكلمة والقداديس.

على واحدة من الصخور المتجذّرة في الحدت ارتفعت قرب دير مار انطونيوس عامَ الفٍ وتسعِ مئة وثمانيةٍ وأربعين مدرسة هي امتدادٌ وثمرة انتقال مدرسة الرهبنة من دير مار أشعيا الى دير مار انطونيوس، وما هي الا سنوات حتى ارتدت المدرسة طابعًا حديثا سمُّي “المعهد الأنطوني الحديث” بإدارة الاب ميخائيل معوّض حافظ ذاكرة الكلمة والإبداع والأدب.

تميّز “المعهد الأنطوني” بوسعِه ومداه وانبساط ملاعبه وكثرة صفوفه واتساعه لطلاب الرهبنة ولأولاد الرعايا والمناطق المجاورة، واكتسى بدءا من العام ألفٍ وتسعِ مئة وستّين هندسة فريدة، تُوشّحها الشبابيكُ والأبوابُ الزرقاء فوق التلة الخضراء ليتماهى اللونانِ بريشة المهندس “إيكوشار” ويحاكيَا مدرسة السنديانة بوهجٍ جديد ومقاربة مختلفة بناء لخطة منهجيّة رسمتها الرّهبنة برئاسة الأبّاتي مارون حريقة.

 ولأن بعبدا عاصمةُ القصر الرئاسيّ، ومعهدَ الأنطونيين على تلّة الحدت يطلّ من علُ، فإّن أوزار الحرب استسهلت قذائفها وصواريخها الأماكن العالية ومن بينها المعهد، ليصيبَه من شرارة الحرب نيرانها قصفا وتدميرا ستّ مرّات ولتُعَلّقَ المدرسة صفوفَها التعليميّة قسرا وتُحوّلَ قاعات التلاميذ غرفا للمهجّرين واللاجئين من الليلكي وبرج البراجنة.

وبين جولة حرب وصولة مفاوضات لتهدئة جنونها ظلّ الرهبان الأنطونيون مؤمنين بدورهم الرياديّ التعليميّ وبمعهدهم التربوي الذائع الصيت نجاحا وتفوقا فشرعوا في كلّ مرة يبنون ما تهدّم يُعلون ما سقط ويشرّعون المعهد مجدّدا أمام أطفال يحملون أحلامهم في حقائبهم ويدسون فيها خبزا وقلما ودفترا عكس ما دسّت لهم الحرب دما وجوعا ورمادا. ومن حينها، والمعهد الأنطوني يعود وينتفض فينفض عن هيكله الأزرق الرماد وتشعُّ عيناه بجمالات السماء، وهي تُنعم على الأجيال المتتالية نِعمَة العلم والكلمة والمعرفة في ضوء رجاءٍ إيمانيّ لا يخبو نورُه على مذابح الأنطونيين، وفي ديرهم مار أنطونيوس المهدّمِ غير َمرّة أسوة بالمدرسة، والـمُعاد تشييدُه عام تسعين بعد عشر سنوات من الصمت المريب ليرتفعَ قرعُ جرسِه وصوتُ ترانيمه ورائحةُ البخور منه على ضوء شموع تشعّ بالرسالة المارونية من تلّته صوب بيروت الهاجعة في عتمٍ طال سنينَ وسنينَ.

وللمعهد الأنطوني، سيرة تخطّت سطورُها التعليمَ الرّائد والإشعاع التربويّ الى فتح سبل وطرق لاصطياد الآباء بصنارتهم المسيحيّة الناس أبناء الرعايا نحو الصلاة من جهة، والنشاطات الاجتماعية الرعائيّة والكشفيّة والرياضيّة من جهة أخرى في محيط يضمّ المسيحيين والمسلمين على السواء، نجحت الأنطونية في اختباره الصعب، ولاءمت بين رسالتها المسيحيّة وانفتاحها على الآخر من دون أن تلغي وجودها وهُويّتها.

 من هنا توسّعت دائرة الأنطونيين اوسع من الدير الرحب والمدرسة المديدة مكانا وزمانا، وتوثّقت أواصر العلاقات الروحية والاجتماعية مع سكان قضاء بعبدا عبر حركات رهبانيّة، وحملات إرشاد نظمتها الرهبنة بين بعبدا وعاليه لترسيخ الوجود المسيحيّ في ظل حرب مدّت يدها على اعناق المسيحيين لتقطع أنفاس وجودهم، فكان الأنطونيون طليعييّن في جعل الأحزاب اللبنانية تدافع عن المشروع المسيحيّ، وفتحوا منبرهم “الصالون الأزرق” في المعهد الأنطوني للنخبة من المفكرين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين كي يجمعوا دراساتهم ويدوّنوا مذكّراتهم الوطنيّة إسهاما في نهضة لبنان، منذ أوائل القرن العشرين إلى ما بعد اتفاق الطائف.

بقي المعهد الأنطوني محتضنا التلة وحيدا الى أن دفقت دفعاتُ الخرّيجين، ووجدت الرهبنة أن احتضانهم بعد الدراسة الثانوية هو أمر أساس، فكان العزم على تثبيت جامعة مجاورة للمعهد بل تتتوأم معه في رَحم واحدة لا يفصل بينهما الا الارض الأنطونية نفسها ولون شجر التلّة الأخضر عينه. وفي آب عام ألفٍ وتسعِ مئة وستةٍ وتسعين، وقّع رئيس الجمهورية الياس الهراوي على مرسوم رئاسيّ لتأسيس الجامعة الأنطونية، فوُلدت الجامعة وانجبت كلياتها واتّخذت بعد عام استقلاليّتها وإدارتها الخاصة أسوة بالمعهد وخصوصيّته. وبعد سنوات ستّ عشرة قسّم مجلس المدبّرين التلة الشهيرة إلى جزءين، واحدة للمعهد، وأخرى للجامعة، لاستقبال آلاف المتعلّمين في المدرسة ونظرائهم في الجامعة وسط استحداث أبنية للجزءين. وفي اليوبيل الخمسين بعد المئتين على تأسيس الدير عامَ ألفين وخمسةَ عشَرَ، ثُبّتَ في قلبها تمثالٌ من خمسة أمتار لمار انطونيوس وارتفع على إحدى أبنيته صليب يضيء العاصمة بيروت بوهج الخلاص.

ومهما كُتب أو قيل أو سُمع عن هذا الدير، المعهد – المدرسة يبقَى أثرُه وما حقّقه للأجيال السابقة وما يهيّئه للأجيال الطالعة مفاصلَ تربويّة واجتماعيّة في الحياة اللبنانيّة جذبتِ الرؤساء والساسة والقادة والروحيين الى منابره ولقاءاته ونتاجاته التربوية والفكريّة ليصير َمع الوقت أيقونة بين إيقونات تاريخ الرهبانية الأنطونية في حضن الأب الكبير للرّهبان الحاضنِ مواهبَهم الروحيّة ورسالتَهم الدينيّة في الأديار والمدارس والجامعات والرعايا لجعل لبنان وطنًا متماسكًا في وجه التجارب المضنية.

والتاريخ شاهدٌ للأنطونيّة وكم شهدَ! كم شهِدَ أنّ مركزها الديريَّ في بعبدا شَهِد وشاهد واستُشهد مع الحرب ثمّ عاد ليقومَ من رقدته أعلى، أقوى، وأكثر فعاليّة.

المدير: الأب أندريه ضاهر

القيّم: الأب دجوني الحاصباني

Rue Abbé Hanna Slim
Baabda – Hadath
B.P. 40032 Baabda

Tel: +961 5 468 223
Email: cpa@cpantonins.edu.lb

http://www.cpantonins.edu.lb/