رسالة قدس الأباتي مارون أبو جوده

رئيس عام الرّهبانيّة الأنطونيّة

بمناسبة عيد القدّيس أنطونيوس الكبير

17 كانون الثّاني

إلى تلاميذنا وأهلهم

إلى الأساتذة والمعلّمات في مدارسنا

إلى المعاونين في الإدارة والخدمات

والأعمال التّقنيّة

المجد لله،

يطلّ علينا عيد أبينا القدّيس أنطونيوس ومجتمعنا اللّبناني يتخبّط في أزمات سياسيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة ودينيّة وتربويّة وحتّى مصيريّة

… لا يغيبنّ عن بالنا أنّ وطننا في مرحلة انتقاليّة، لأنه يعرف اليوم وعياً شَعبياً وإرادة وطنيّة تهدف إلى التّغيير، ونحن نعو لِّ على هذا المنحى، من أجل إرساء عدالة اجتماعيّة حقّة مبنيّة على التّنمية المستدامة. وهذا المزيج بين القلق والأمل يأخذ مداه وحدّته في المدرسة أكثر ممّا يأخذه عند غيره من قطاعات المجتمع، لأنّ هذه الرّافعة التّربويّة بحاجة إلى بيئة حاضنة لتدريب جيل يصنع المستقبل وإلى تحييد هذا القطاع عن التّجاذبات وتأمين المستلزمات المادّيّة الضّروريّة بغية ضمان مساره وصيرورته. أمام القلق الذي يسيطر على النّاس، وانسداد أفق الخروج من المحن، وتضافر جهود أصحاب الإرادة الصّالحة لبلورة خطّة إنقاذيّة تعيد الثّقة وتبدّد الخوف، أدعوكم، بمناسبة عيد شفيعنا، إلى التّوقّف على نهجه بغية التّوصّل إلى إجابات شافية للصّعوبات الجمّة التي تطال الجميع. إنطلاقا من قراءة علامات الأزمنة، على الأنطونيّ أن يُدرك حجمالتّحد يِّات ونوعيتها التي نمرّ بها، وأن تصبح مادة خصبة لصلاته وتأمّلاته، ومناسبة ملائمة للنّمو بالعمق وللتّعاضد، وتبنّي مقاربة الرّجاء بالتّعاطي مع حالة القلق والعوز لدى شريحة كبيرة من المواطنين. إنّ الظّروف الصّعبة تشكّل حافزاً لكلّ فرد في الجسم التّربوي لكي يجتهد في التّغلّب على اليأس بهدي المعلم أنطونيوس وبالرّجوع إلى سيرته، واستلهام الإرث الرّهباني بعيداً عن منطق الإحباط وتوجّهات إدارة النّهاية كأننا في غرفة انتظار للموت.

أحبّائي

أنّ عائلتنا الأنطونيّة برهنت عبر الزّمن عن قدرتها بالمساهمة في عمليّة تجديد المجتمع، وعن قناعتها بإلزاميّة الإلتصاق بالشّعب، وبالإنحياز للفقراء كخيار استراتيجي. وبالإستناد إلى المشورات الإنجيليّة، انتهزت الرّهبانيّة الفرصة للتّصدّي للأزمات في محطّات تاريخيّة عديدة بغية إحداث نقلات نوعيّة في تأدية رسالتها في خدمة الشّعب اللّبناني، وليس فقط من ناحية الحرص على العيش معًا بين الطّوائف، وإنّما أيضا بالسّعي الدّؤوب إلى العيش الكريم لجميع النّاس. إنّ التّصدّي لآفة الفساد تشمل الجميع وليس » كوكب البرّيّة « ، يعلّمنا أنطونيوس .»! كلن، يعني كلنا« ، فقط فئة المسؤولين. فهذه الورشة تحتاج أوّلً إلى ثورة على الذّات فقد لجأ قدّيسنا الكبير إلى الصّحراء في عمليّة تنقية لذاته وتبشير أعماقه من خلال تبحّره بالذّات الإلهيّة فذاع صيت شفافيّته ومناقبيّته. لقد أدرك تلاميذ مار أنطونيوس أنّه ليس بإمكانهم متابعة رسالة اليقظة بالتّكرّس الرّهباني، إلّا إذا ركعوا تحت أقدام الصّليب حيث تسقط الأقنعة، فيَخلعوا كلّ ما يتنافى مع هويّة الإنسان، ويتناقض مع سعادته الحقيقيّة. نعم، نحن بحاجة قصوى إلى التّوبة، وإلى وعي سرّ الفداء، لأنّه لا يكفي تشخيص المرض بحدّ ذاته، وإنّما علينا إستدعاء الرّب ليشفي عاهاتنا ويقوّم إعوجاجنا. فأمام سقوط الضّمانات العديدة التي اتّكلنا عليها، من أنظمة سياسيّة ومنظومات ماليّة، يبقى الإستثمار في حياتنا الرّوحيّة ملجأنا الوحيد. لا بدّ إذًا من تدعيم وعينا لهذا الدّور النّبوي التّاريخي في هذه المرحلة الدّقيقة التي يئن فيها شعبنا – ونحن معه- مفتشاً على خشبة الخلاص، بالسّعي الدَؤوب والجادّ في سبيل أن نكون صوت الذين لا صوت لهم، عبر المطالبة بحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعيّة، وصون الخير العام والمشاركة في الحياة الإجتماعيّة الكريمة. إنّ الحياة الرّهبانيّة الّتي تأسّست مع أبينا أنطونيوس، كانت إنتفاضة، وكانت جواباً على الفتور والرّكود في المجتمع. بعدها أحدثت انتفاضة الحياة التّوحدية بقيادة رهبان مار أنطونيوس زلزالا كبيراً، فتح صفحة جديدة في تاريخ الخلاص، وأطلق عمليّة الإصلاح الكنسي القائمة على أولويّة الإهتمام بالفقراء. وهل في لبنان من مؤسّسة أكثر ملاءمة من المدرسة، برهبانها وبمعلّميها وبأهلها وبتلامذتها، للمبادرة بالتّدرّب على المناقبيّة والمساءلة المسؤولة والشّفافيّة ونبذ التّبعيّة… أعذروا جرأتي إن قلتُ إنّ التّفوّق في التّحصيل العلمي، لا يُغني عن البطولة الأخلاقيّة، لا بل هي علّته وامتداده في آن! إنّ نهضة لبنان الأخلاقيّة تقع ضمن سياق بناء دولة تجمع بين القول والفعل

بناتي وأبنائي

لقد لبّى الشّاب الغني أنطونيوس دعوة الرّب في » إن أردت أن تكون كاملً، بعْ كلّ   ما لك، وتعال اتبعني« متى 19-21

لقد عاش قدّيسنا الكبير الشّركة في الخيرات المادّيّة متجرّداً عن إرث والديه، وموزّعاً خيراته على الفقراء. إنّ مدرسة أبينا القديس أنطونيوس تدعونا إلى التّضامن مع كافة الذين يتواجدون في حالة ضعف أو عوز، مثل العاطلين عن العمل والمسنّين والمرضى والأطفال، خاصة المهمّشين منهم. ما يعني مشاركتهم الظّروف التي يعيشون فيها، والعيش مثلهم محرومين من أشياء متعدّدة. اختيار العيش كفقراء هو في حدّ ذاته إعلان لإنجيل الخلاص للفقراء. فمن دواعي سرورنا في الآونة الأخيرة، تكاثر أعمال الرّحمة في مراكزنا التّربويّة لإعالة كلّ محتاج من عائلتنا الأنطونيّة، وعدم حرمان أي تلميذ من فرحة العيد. كلّ ذلك يدفعنا إلى محاربة الظّلم الإجتماعي المتسبّب الأوّل في مشكلة الإنهيار الإقتصادي وتداعياته على الأمن الإجتماعي زد على ذلك، لقد واظب أنطونيوس المُتبحّر طوال حياته على شركة روحيّة مع كلّ إنسان يتعرّف عليه، شاركاً إيّاه بخبرته الرّوحيّة وبنضاله اليومي، لكي يعلّمنا، في عالم ينتظر منّا الكثير، التّخلي عن ذهنيّة الإستهلاك، ويسائلنا باستمرار عن أدائنا مع خيرات الأرض. تحتاج النَقلة المطلوبة لمجتمعنا اللّبناني إلى حمل كلّ مكوّنات العائلة التّربويّة على تبنّي عيش مفهوم التّقشّف الذي أطلقه حراك الحياة الرّهبانيّة. لا يمكننا مواجهة الأزمة الحالية إلّ بالتّوقّف عن استهلاك أكثر من حاجاتنا من دفاتر وملابس… وتبذير المقتنيات الّتي تؤمّن العيش الكريم. إنّني واثق بأن اعتماد الإدارة الرّشيدة ونبذ الإستهلاك السّائد في اقتصادنا الرّيعي هو السّبيل لوقف الإنهيار وعدم حرمان عدد كبير من المواطنين من الخير العام ما نرجوه في السّياق نفسه، هو المحافظة على الطّرح الأنطوني للتّعليم الّذي يجاهد الآن في استمراريّته بتلبية الخدمة الكنسيّة للمجتمع اللّبناني بكلّ أطيافه. فظروف الدّولة الحاليّة تحتّم علينا المثابرة في تأمين التّربية لأبنائنا، وإلا سنحرمهم من تحصيل مهارات بناء المجتمع الجيّد والعادل. هذا وإنّي لواثق بأنّ في العائلة الأنطونيّة مخزوناً من الثّقة والعقلانيّة والتّكافل والقلوب الحرّة، ما يكفي لكي نتجاوز هذه الفترة بالهدوء اللّزم، وبالإتّكال على العناية الإلهيّة. فتشفّعات آبائنا القدّيسين وإرادتنا الصّالحة ووعيكم الذي نفخر به، وتحمّل المسؤوليّة التي يبديها جميع أعضاء العائلة التّربويّة، كلّ ذلك لكفيل بأن نستمرّ قي تأدية رسالتنا التّربويّة في ظلّ الأزمة الإقتصاديّة وفي غياب أي دعم رسميّ نأمل أن يُحدِثَ هذا العيد ثورة تجدديّة في بلادنا، في الّذكرى المئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، ويكون انتفاضة روحيّة، يهب فيها الرّوح القدس بقوة في أعماقنا وفي أروقة الأديار، وفي الصّفوف المدرسيّة، وفي منازلنا، في هذه السّنة المدرسيّة الشّراكة « التي شعارها نصلي لنعود وننطلق كلّنا مجدّدًا من الله ومعه، من أجل بناء عالم جديد، ومن أجل العيش الكريم، لنتقدم معاً نحو ملكوت الرّحمة والعدالة والأخوّة والسّلام، مردّدين إجعل يا رب ما يؤذينا ويخس رِّنا، يتحول « : من  صلاة ليتورجية القدّاس الإلهي الماروني عاجلاً إلى ما يُفيدنا وينفعنا

عيد مبارك

وكلّ عام وأنتم بخير

دير مار روكز – الدّكوانة

في 10 كانون الثاني 2019

الأباتي مارون أبو جوده

الرّئيس العام

للرّهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة